التجاني محمد الماحي

ميلاده ودراسته

ولد التجاني الماحي بمدينة الكوة بمديرية النيل الابيض في 7 يناير 1911. وتلقى تعليمه في الكوة ورفاعة والخرطوم حتى تخرج في مدرسة كتشنر الطبية في عام 1935. التحق بعدها بالمصلحة الطبية السودانية طبيباً وعمل في مناطق مختلفة من السودان منها أمدرمان، الخرطوم، وادي حلفا وكوستي. بعد قضاء عامين في معهد الطب العقلي والنفسي بجامعة لندن نال دبلوم الطب النفسي في يوليو 1949، فكان بذلك أول افريقي يجاز في هذا التخصص. بعد رجوعه السودان مباشرة قام التجاني بتأسيس أول عيادة للأمراض العصبية بالمصلحة الطبية السودانية بالخرطوم بحري في أكتوبر 1950. في عام 1956 تطوع في الخدمة العسكرية في حرب القناة بمصر.

من عام 1959 إلى 1964، شغل منصب مستشار الصحة العقلية لمنطقة شرق حوض البحر الأبيض المتوسط (منظمة الصحة العالمية) بالاسكندرية. وبعد ثورة 21 أكتوبر 1964 اختير عضواً ورئيساً مناوباً لمجلس السيادة السوداني.

وفي سنة 1969 عرضت عليه جامعة الخرطوم درجة الاستاذية في الطب النفسي فقبلها والتحق بالجامعة رسمياً. من حينها انصرف لانشاء قسم الأمراض العصبية والنفسية بكلية الطب حيث عمل إلى أن وافته المنية المحتومة في الساعات الأولى من صباح الخميس الثامن من يناير 1970 بالقسم الجنوبي بمستشفى الخرطوم الملكي. تزوج التجاني في عام 1937 وأنجب أربعة أبناء وبنتين.

التجاني الرائد

كان التجاني الرائد قبل أكثر من نصف قرن للدراسة العلمية الميدانية للطب التقليدي السوداني ولتأكيد أهميته وإمكانية الاستفادة منه وتوظيفه في طرائق ايصال العلاج للجميع وترقية الصحة. فكان أن عني بتسجيل ممارسات الزار تسجيلاً علمياً دقيقاً تشهد بذلك المخطوطات القيمة التي تركها. فقد حلل الأنماط الشبحية في الزار (مشايخ الزار) وعدد وظائفهم وأهمية كل ذلك في التشخيص وفي علاج بعض الأمراض النفسية. ومقالاته عن الزار في عام 1944 ومخطوطاته التي بدأها في عام 1937 معالم بارزة في تاريخ هذه الدراسات. كان التجاني من أوائل من قرأوا كتاب (الطبقات) لابن ضيف الله بعين الطبيب الحصيف ونوهوا بما يحويه من تراث طبي فلفت الأنظار إلى الجذور اليونانية القديمة فيه ولنظرية الأخلاط الأربعة التي اعتمدها التراث الطبي التقليدي السوداني. كما قرأ (مختارات الصائغ) ونوه بفضله وكتب عنه.

اتصل التجاني بمشائخ الطرق الصوفية، وكان صديقاً للعديد منهم منذ منتصف الثلاثينات. وكانت لعلاقته تلك أثرها في تشكيل نظرياته المتفردة والمبتكرة في العلاج النفسي. فقد كان أول من ابتدع (نظام القرية العلاجية) الذي يستفيد من مهارات المعالجين التقليديين ومن ثقة الناس فيهم لما يتمتعون به من احترام بينهم. وقد بدأ مشروعاً مبتكراً في مسيد أم ضبان لم يكتب له الاستمرار طويلاً بعد موته، وقد نقل زميله في الدراسة في انجلترا دكتور اديو لامبو ذلك النظام ووضعه موضع التنفيذ في قرية أرو في نايجيريا، فكان مشروعاً مفيداً وناجحاً.

مكتبة التجاني

قبل موته، أوصى التجاني الماحي بإهداء مكتبته (2650 مجلداً، 8000 كتاباً، و760 خارطة نادرة) لمكتبة جامعة الخرطوم. نوهنا في مقدمة المجلد الثاني لأعمال التجاني[1] إلى أن تلك المكتبة تحوي مخطوطات عربية وإسلامية نادرة، وأعربنا عن أملنا في أن يتجه الاهتمام القومي إلى حصر ووصف وتصنيف وفهرسة هذه المخطوطات وتصويرها وخزنها وحفظها من التلف، ثم إتاحتها للقراء والباحثين. وقد أشرنا إلى أن إضافة التجاني تلك جعلت مكتبة جامعة الخرطوم غنية بالمخطوطات النادرة. وكنا وما زلنا نأمل في أن تصبح تلك المكتبة قبلة للعلماء والباحثين إكراماً للرجل الذي بذل ماله وعرقه وأفنى عمره في جمعها.

علاقتي بالتجاني

بدأت علاقتي بالتجاني الماحي في عام 1966. فقد أنشأت وحدة أبحاث السودان، جامعة الخرطوم في عام 1965 جائزة أسمتها حينئذ (جائزة السلمابي) لتشجيع طلبة الجامعة حينئذ على البحث العلمي في ما يهم السودان. كان من بين تلك المواضيع واحداً عن الطب الشعبي. اشتركت في تلك المسابقة مرتين في عامين متتاليين في نفس الموضوع، وفزت في المرتين. ونشرت الوحدة في المرة الثانية الأبحاث الفائزة وكان على رأسها موضوعي الذي فاز وكان بعنوان (الطب الشعبي في السودان: المفاهيم والأساليب). فكان أول بحث متكامل ينشر عن الموضوع في السودان باللغة الانجليزية. لم يكن هذا هو المهم في الأمر بل المهم هو أن الشخص الذي أشار بوضع الموضوع للمسابقة كان التجاني الماحي، وكان أول من اتصلت به ليساعدني في جمع المادة اللازمة للبحث وليعينني على طرائقه. فقد أهداني نسخة من كتاب محمد بن عمر التونسي (تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان) وهي النسخة التي أهداه أياها محقق الكتاب محمود خليل عساكر. كما أشار على بقراءة كتاب نعوم شقير (تاريخ وجغرافية السودان)، و(مختارات الصائغ) و(الطبقات).

كان لوحدة أبحاث السودان ولتلك الجائزة شأن في حياتي. فزيادة على أنها جمعتني بالتجاني، فقد فتحت لي آفاق رحبة من البحث ما زالت تثري حياتي. فقد بدأ منذ ذلك الوقت (1966) اهتمامي بالطب الشعبي، والذي قاد إلى إنشاء معهد أبحاث الطب الشعبي بمجلس الأبحاث الطبية بالمجلس القومي للبحوث في عام 1982 وإنشاء مركز منظمة الصحة العالمية المتعاون في أبحاث الطب الشعبي لمنطقة شرق حوض المتوسط. منذ قيامه وحتى 1988 ساعد المعهد في تأسيس وتنشيط وتنظيم البحث العلمي في مجال الطب التقليدي كما أوفد عدداً من الباحثين للحصول على درجة الماجستير والدكتوراة في الانثربولوجيا الطبية والفولكلور الطبي، وهي مجالات يرتادها السودانيون لأول مرة، وما زالت مجالات بكر في السودان. كما قام بنشاطات وإنجازات يضيق هذا المقال عن تفصيلها.

ثم تتلمذت على يدي التجاني الماحي في الطب النفسي قبل التخرج في كلية الطب، وصحبته (حواراً) حتى وفاته وكنت آنئذ على أعتاب التخرج. فكنت كثير التردد عليه ما سمحت ظروف الدراسة أنئذ بذلك.

أثناء تتلمذي على التجاني الماحي كتبت أول مقال علمي حمل اسمينا ونشر في (مجلة الحكيم). وقد كان المقال بعنوان (العلم والأساطير: صور من تاريخ الملاريا). وبالطبع لا يخفى على القارئ تلك البادرة اللطيفة حين يعطي الاستاذ تلميذه اسمه في صدر مقال علمي وما يعطي الطالب ذلك من ثقة وشعور بعظم المسئولية العلمية وما ينفث فيه من حماس. استهل التجاني ذلك المقال بقوله أن (الأساطير من صنع الإنسان وهي تدل على منطق الإنسان وتفسيره لأحداث هذا الكون في بداوته وقد تعكس الخرافة بعض الحقائق التي قد يبرهنها العلم. وفي علم النفس تفسر الخرافات تفسير الأحلام، فالخرافات أحلام الشعوب).[2]ناقشنا في ذلك المقال الحميات المختلفة بما فيها حمى خيبر التي يظن أنها كانت سبب وفاة الرسول الكريم. وتعرضنا فيه لـ (المعالجة المثلية) الخ.

تحقيق أعمال التجاني

تعبت تعباً شديداً في تحقيق وتحرير أعمال التجاني الماحي ونشرها. فقد كان يدون أفكاره، أو بالأحرى يبعثرها، في أوراق صغيرة مقواة كتلك التي تستعمل في الفهرسة. ويكتب بالرصاص أو القلم الأسود وبخط كبير البنط. وحين يترجم كان يبدأ أولاً بترجمة الكلمات ثم يبدأ الصياغة. ولأنه قد يبدأ موضوعاً ويتركه لآخر يسترسل فيه أو في الحديث عنه ما شاء له الاسترسال، فقد تتبعثر تلك الوريقات وتختلط، وقد تتفرق أوراق الموضوع في مواضع شتى، وقد يعيد كتابة ما بدأ مرات. فتكثر وتتكرر القصاصات، فلا تدري أيها تأخذ وأيها تترك.

في تلك الفترة كان قد بدأ في ترجمة كلمات بعض قصائد مختارة من (إشراقة) وكان الديوان رفيقه في أسفاره الأخيرة. لكن حسب علمي لم ينجز شيئاً من تلك الترجمة. لا أعلم إن قام التجاني بترجمة أي أعمال أخرى غير تلك التي أثبتها في الكتابين الذين نشرتهما له. وبالنظر للأعمال التي ترجمها وهي قليلة، يمكن القول بأنه أنجذب في تلك التراجم للفظ الجميل والمعنى الراقي والدلالات الصوفية الرقيقة الدقيقة. فقد حوت تلك الأعمال التي ذيلت بها المجلد الأول ترجماته لقصائد نزار قباني في ديوانيه: (قصائد) و(أنت لي) وبعض التهاويم الصوفية التي لم أستطع التحقق من أصلها العربي، وشذرات من الأدب الشعبي الليبي.

التجاني والإبشيهي والصائغ

وصف التجاني الماحي عوض الكريم محمد هندي (1873- 1959) الصائغ بأم درمان في مقال له نشر في جريدة الرأي العام عام 1959 بأنه إبشيهي السودان. وقد عرف عوض الكريم محمد هندي بالصائغ لاشتغاله ونبوغه في فن صياغة الحلي. كان أبوه مغربي الأصل جاء السودان ضابطاً في جيش محمد على ومن أم مصرية. كان الصائغ رغم محدودية علمه قارئاً واسع الاطلاع، متعدد المقدرات، وبصيراً بالمعني السوداني العريض لمعنى البصير. كتب الصائغ كتاباً من ثلاثة أجزاء عرف بـ (مختارات الصائغ) جمع فيه أشتاتاً غنية من التاريخ والعلوم والآداب والأحداث في عصره.[3] وأفرد جزءاً كبيراً منه للطب والعلوم الغيبية. ولأن (مختارات الصائغ) كان كتاباً مقروءاً محبوباً ومعروفاً في أغلب البيوت، فقد شبه التجاني الصائغ بالإبشيهي.[4] والابشيهي هو مؤلف كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف). لم أجد ذلك المقال رغم تأكيد بعض أقاربه أنهم رأوه وقرأوه وأنه نشر في ثلاث حلقات تباعاً حوالي عام 1957! لم أعثر على تلك المقالات بعد.

منشورات التجاني ومسوداته

في آخر سنوات حياة التيجاني توثقت صلتي به وتعرفت على أكثر كتاباته التي نشرها في مجلات بعيدة عن متناول أغلب القراء، وعلى التقارير العديدة التي كتبها حين كان مستشاراً للصحة النفسية لإقليم شرق حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى نصوص المحاضرات التي ألقاها في المحافل الدولية المختلفة، زيادة على المسودات التي ساهمت في تبييضها معه.

بعد وفاته، هالني الفراغ الذي تركه وأزعجني الإنبهار الذي سود به المثقفون صفحات الجرائد. فقد كان حرياً بالتجاني أن يبهر الناس، وحرياً بزملائه ومعاصريه ومن عرفوه وعرفوا قدره أن ينبهروا بسعة علمه. لكن لأن ذلك الانبهار غلب على كل الكتابات التي غطت فترة ما بعد وفاته، وأقفلت التوثيق الدقيق لأعماله، رأينا حينئذ أن نجمع ونحقق ما نشره لفائدة الأجيال اللاحقة لنوثق لحياته العلمية والأدبية.

لكي أقوم بذلك سألت الاستاذ عبد الرحمن النصري أمين مكتبة جامعة الخرطوم أن يفتح لي ملفات أوراق التجاني بمكتبة جامعة الخرطوم. لم يتردد النصري لحظة في الاستجابة لطلبي بل بادر بحكم أنه عضو في مجلس إدارة دار النشر بجامعة الخرطوم وبمعاونة الراحل على المك، بالموافقة على طباعة أعمال الراحل على نفقة مطبعة جامعة الخرطوم. وقد تم ذلك، فطبع المجلدان في 1982 و1984.

نوهت في أكثر من مقال خصوصاً في (ببليوغرافيا التجاني الماحي) الذي نشرته في مجلة الدراسات السودانية تكملة لمقال في نفس الموضوع بقلم قاسم عثمان نور، إلى ما تبقى لدي وكانت مخطوطة (الرائد لا يكذب أهله). وطلبت من كل من لديه قصاصة أو شيئاً ذي بال يمكن أن يعينني على إكمال ما بدأت من عمل أن يرسله لي أو يشير إلى مكانه. لم نجد شيئاً جديداً أكثر من الذي نشرناه في الكتابين.

[1]  أحمد الصافي وطه بعشر. التجاني الماحي: مقالات مختارة، مطبعة جامعة الخرطوم: 321 صفحة. 1982.

[2]  أحمد الصافي والتجاني الماحي: العلم والأساطير: صور من تاريخ الملاريا. صفحة 213-215، مجلة الحكيم 1968.

[3]  عوض الكريم محمد هندي: مختارات الصائغ.

[4]  الإبشيهي: المستطرف في كل فن مستظرف.


Maintained by
aalsafi@hotmail.com
Copyright © 2001 by Ahmad Al Safi. All rights reserved.

This site was last updated January 01, 2005